
نشر الصحفي العراقي “محمد السلطاني” مقالات تحت يافطة “مقتدى الصدر ارتكب أفضل خطأ”، حلل فيه حركة مقتدى الصدر الأخيرة والتي انسحب فيها من العملية السياسية، إضافة إلى حركاته وتطلعاته السابقة وغاياته لأجل وصول لمبتغاه.
يبتدأ “السلطاني” مقاله الذي نشره موقع النهار :
يقول كثير من المحايدين وخصوم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وحتى مقربوه، أن قراره بسحب نواب الكتلة الصدرية من البرلمان العراقي كان خطأ جسيماً، لكن من جهة أخرى، مثّل الانسحاب “قُبلة حياة” لمسار العدالة المحتضر في البلاد.
خسائر ممكنة داخل التيار
تسبب قرار الانسحاب بإحباط لدى جمهور التيار الصدري، يفشلون في إخفائه وإن حاولوا التظاهر برباطة الجأش والتسليم والثقة بقرارات زعيمهم.
جاءت مقاعد الصدر الـ 73 بعد أول حملة انتخابية يقودها الصدر بنفسه، وشهدت الانتخابات الماضية أكبر اندفاع لقاعدة التيار الصدري نحو صناديق الاقتراع سعياً لتحقيق شعار المائة مقعد، وقد صمد الصدر وحليفاه “الديموقراطي الكردستاني” و”تحالف السيادة السنّي، طيلة 8 أشهر بوجه كل ما فعلته الفصائل المسلحة المرتبطة بالحشد الشعبي والموالية لإيران والتي أحكمت سيطرتها أيضاً على رئيس مجلس القضاء فائق زيدان.
لازَمَ “الحرد” السياسي سلوك الصدر طيلة عقدين دون أن يصل الأمر إلى استقالة أكبر كتلة من البرلمان، لقد كان متوقعاً أن يعلن الصدر الانتقال إلى المعارضة، لكن استقالة نوابه من البرلمان كان قراراً غير متوقع من جهة، وغير مُحبذ لدى جمهور التيار، الذي وإن كانت علاقته تقوم على “طاعة” زعيمه، لكنه أيضاً يتوق إلى مزيد من مزايا السلطة، أو حتى إلى رؤية انجازات يباهي بها.
سيتسبب انسحاب الصدر بحرمان الصف الأول من أنصاره من آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة التي كانت توفرها كتلته الكبيرة في البرلمان ونفوذه السياسي، وقد سبق في سنوات ماضية، أن انشق العديد من أنصار الصدر وانضموا إلى المعسكر الأكثر قرباً من إيران طمعاً بالمكاسب أو رغبةً بالزعامة كما فعل زعيم جماعة العصائب قيس الخزعلي، وقد يقود ضيق نفوذ التيار إلى أموال ومزايا الدولة، بانشقاق المزيد، خاصةً إذا ما استجاب الصدر للحملات الاستفزازية التي تدعوه إلى سحب بقية مواليه من السلطات التنفيذية والمحلية لإثبات “طهرانيته وزهده”.
وضع الصدر نفسه في موقع لا يقبل القسمة على اثنين، فإما إبقاء بقية مواليه في الوزارات وإدارات المحافظات، وبالتالي الطعن في خطابه الزاهد والمتبرئ من السلطة، أو أن يقوم بسحب مواليه أو السماح بإقالتهم، وهو ما سيعني تجفيف منابع تمويل التيار وإضعافه، وتمكين خصومه من تقليص مساحة نفوذ الصدر.
خارج التيار
أهدى الصدر مقاعده لخصومه، الذين سارعوا إلى ملء الفراغ وإعلان بدء مشاورات تشكيل الحكومة بعد أن تضاعفت أعداد مقاعدهم، لكن لا يبدو حتى الآن أن انضمام التحالفين (الكردستاني والسيادة) إلى الائتلاف الحكومي الذي يسعى الإطار لتشكيله، هو أمر مضمون.
في الثالث عشر من حزيران (يونيو) قال القيادي في الإطار التنسيقي حامد عباس، إن الإطار سـ “يسوق” حلفاء الصدر رغماً عنهم لتشكيل ائتلاف حكومي بعد انسحاب الكتلة الصدرية، وباستخدام قوات “الحشد الشعبي” إن لزم الأمر. وبعد 10 أيام، بدا أن الإطار نجح في ما توعّد به، فقد وافق الديمقراطي الكردستاني و”السيادة” السني، على إكمال نصاب جلسة استبدال نواب الكتلة الصدرية، بينما كانت أوساط التحالفين تتوقع جولة مفاوضات طويلة لتثبيت ضمانات مقابل إكمال النصاب الذي يحتاجه الإطار.
إذا ما نجحت فصائل الإطار الموالية لإيران بتشكيل الحكومة المقبلة، فإنها قد تستفيد من عدة عوامل، على رأسها الوفرة المالية المتسارعة بعد ارتفاع سعر النفط، والتي يمكن استخدامها في عمليات الرشوة الجماعية التي أتقن حلفاء إيران توظيفها طيلة عقدين من السلطة، وزعوا خلالها الوظائف على الأنصار، والمرتبات والامتيازات على الإعلام. لذا فإن المجازفة التي قام بها الصدر ترقى إلى مقامرة غير مضمونة.
السيناريو المثالي الذي ربما يتوقعه أو يراهن عليه الصدر، هو أن يخفق حلفاء إيران بتقديم الخدمات وصون الحريات وحقوق الإنسان والنهوض بالمستوى المعيشي وفتح أبواب البلاد المغلقة بوجه شركات الاستثمار والإعمار العالمية، لكن احتمالية تحقق هذا السيناريو تبقى متناصفة مع احتمالية تحقق السيناريو المضاد، ولذا كان خيار الانسحاب مقامرة أكثر من كونه حركة محسوبة.

الزعيم المدلل كثير التململ
ورِث الصدر قاعدته الشعبية وراثةً، ولم ينشئها، ولقد فتح عينيه على السياسة وفي حوزته جمهور من ذهب، لجهة العدد والطاعة، ولذا تطغى سرعة السأم والاعتكافات المتكررة على سلوك الصدر.
في التجربة الأخيرة، لم يكن ثمة “انسداد سياسي” وفق المصطلح الذي روجه حلفاء إيران، بل كانت لعبة أرقام وإقناع خاضها الصدر ونوري المالكي، سعى الثاني بكل طاقته وعمل ليل نهار لإقناع القوى والنواب المتأرجحين بتعطيل مشروع الصدر، بينما لم يفعل الأخير شيئاً يُذكر، باستثناء رفع هاتفه النقال للاتصال بشخصين، هما زعيما الحزب الديمقراطي مسعود بارزاني، وتحالف السيادة محمد الحلبوسي.
كان الصدر بحاجة إلى نحو 20 نائباً ليمضي في مشروعه، ومن أجل هذا، كان عليه إطلاق عملية تصحيح عاجلة لسلوكياته الأخيرة ضد جمهور النواب المستقلين، لكنه لم يفعل، حتى أنه كتب بياناً بلغة متعالية يدعو فيها المستقلين للانضمام إلى كتلته، بدل أن يستمع إلى اعتراضاتهم ويفاوضهم.
علِق الصدر عملياً في منطقة “العزة بالإثم”، ولم يجرؤ على اتخاذ خطوات شجاعة لتسوية الجرائم التي تورط بها تياره بعد شباط (فبراير) 2020 على الأقل، لم يكن يريد إعلان نفسه زعيماً مقبولاً شعبياً، بل ملكاً مفروضاً على الناس بقوة التحالف الثلاثي، وفي النهاية، قرر أن يستسلم ويتنازل عن مشروعه، بدل التنازل للضحايا ومراجعة الخطايا، ، وهو بذلك يكشف افتقاره للأهلية في شغل موقع تاريخي على خارطة القرار في العراق.
3 أهداف لحلفاء إيران
طيلة 8 أشهر، استخدمت أذرع إيران كل الوسائل لجرّ الفائز الأكبر إلى تشكيل “ائتلاف شيعي” يقود المرحلة المقبلة، بذريعة أن المكوّن الشيعي هو الأكبر، وأن الائتلاف الحاكم لابد أن يتألف من القوى الشيعية مهما كان عدد مقاعدها، وليس عبر ائتلاف يضم السنة والكرد.
كان هذا يعني أن قوى حصلت على مقعدين، أو لم تحصل على أي مقعد، سيكون لها الحق دائماً بالجلوس إلى طاولة تشكيل الائتلاف الحكومي، فقط لأنها قوى شيعية، يعتمر زعماؤها عمائم شيعية، أو يملكون سلاحاً شيعياً.
الوجه الآخر لدعوة أذرع إيران، هو إلغاء فكرة الانتخابات في البلاد عبر إنهاء مبدأ الخاسر والفائز، وحصر القرار إلى الأبد ضمن معادلة الأمر الواقع الذي تحتكره بضع فصائل يقودها معممون مسلحون، فإن فازت في الانتخابات، قالت إنها قوى مُنتخبة، وإن خسرت، قالت إنها قوى شيعية تمثل الشيعة، وفي الحالتين على العراقيين الإذعان لسلاح تلك الفصائل والتعامل معها كقدر لا يمكن تنحيته لا بالتظاهرات ولا بالانتخابات.
أما المؤدى الثالث الذي تقود إليه دعوة القوى الحليفة لإيران، فهو إنهاء مبدأ المحاسبة وقبرُ العدالة إلى الأبد، لأن إشراك الجميع في حكومة ائتلافية، الفاسد والقاتل والطالح، والصالح إن وُجِد، سيعني شطب جرائم عقدين، وإطلاق نقطة شروع جديدة، تعفو عمّا سلف.
مع بقاء الصدر خارج الحكومة، وانضمام قوى أخرى، لن يتم تحقيق أي من تلك الأهداف، لقد تم تأجيل فرصة المواجهة من أجل العدالة، بدل إلغائها عبر “حكومة الجميع”.
إخفاق في فرض “تصفير الجرائم”
وضعت نتائج أول انتخابات بعد انتفاضة “تشرين” البلاد أمام مسارين، إما حكومة تضم الجميع، وتطوي صفحات الجميع، أو تضم النصف، وتطلق مرحلة محاسبة النصف الآخر.
ولأنه قادر على محاسبة أنصاره وقياداته أيضاً “إن شاء!”، كان لدى تحالف الصدر مع شريكيه، الفرصة لإطلاق حكومة المحاسبة أو العدالة الانتقالية، ليس ابتداءً باغتيال عبدالمجيد الخوئي ومجازر حقبة المالكي، وسقوط الموصل، ثم ملف الاغتيالات وقتل المتظاهرين، ولا انتهاءً بهدر مالي أنفقه حلفاء إيران على حروبهم وفصائلهم وخلاياهم الحزبية والإعلامية، تشير تقديراته إلى 300 مليار دولار، وتهريب 150 مليار إلى الخارج منذ العام 2003.
عام 2016، عبّر رسام الكاريكاتير العراقي الشهير، أحمد فلاح، عن تطلع الملايين، حين وضع رموز النظام الحالي، ومن بينهم المالكي، في قفص محاكمة صدام حسين، وحتى الآن، لا يتعايش العراقيون مع فكرة أنهم تخلصوا من طاغية، ليعيشوا تحت كواتم أفراخ طاغية.
مثلت “تشرين” احتجاجاً على تحول النظام القائم إلى امتداد لنظام صدام حسين، يكرر جرائمه وانتهاكاته وسرقاته، لكن بعمامة شيعية بدل بيرية العسكري السني. وعندما يفر العراقيون من قتلة الفصائل عبر مطار بغداد، تودعهم جدارية نصبها النظام الحالي، تحمل عبارة “إرادة الشعوب أقوى من الطغاة”، يؤكد تاريخ العراق أيضاً هذه المقولة، والنقاش منحصرٌ فقط بتلاعب الطغاة على الزمن، فكلما أطالوا أعمارهم بالألاعيب.. عمّقوا قبورهم، تقول الوقائع.
اليوم، لا يريد حلفاء إيران حصصاً كبيرة في الحكومة، وهم مستعدون للتنازل عن معظم الامتيازات، شرطَ أن يشتركوا في الائتلاف الحكومي. لقد اكتفوا نسبياً من الأموال والعقارات والمسلحين والفضائيات، وكل ما يريدونه هو ضمانٌ بأن لا يكونوا داخل أقفاص صدام.
فشلت قوى إيران حتى الآن بتمرير حكومة “تصفير الجرائم”، وسيمنح بقاء الصدر خارج الحكومة فرصة للعراق في استعادة مسار العدالة، الذي يسميه حلفاء إيران “الحرب الشيعية”.
على المدى القصير، وفي إطار الصراع مع خصومه “ارتكب الصدر خطأ وقامر بمستقبله” يقول الصدريون قبل غيرهم، أما استراتيجياً، فإن إصرار الصدر على رفض تمرير حكومة “التصفير” يجعل البلاد على موعد جديد مع جولة تدافع سياسي أخرى تنتج قسطاً من العدالة الانتقالية.
Discussion about this post