
حارث حسن
عند زيارته حشداً من أنصاره الذين تظاهروا بالقرب من بوابة المنطقة الخضراء في بغداد، بعد مقتل أحد منتسبي فصيل “عصائب أهل الحق” خلال اشتباكات مع القوات الأمنية العراقية، توعد زعيم “العصائب” قيس الخزعلي بالثأر، وخاطب رئيس الوزراء العراقي بعبارة: “اسمعها من شروكي أصيل”، كدليل على صدق وعيده. عبارة “الشروكي الأصيل” مرّت في الغالب مرور الكرام، لكنها تعكس كوامن لاشعورية في النسيج الذهني والعاطفي والتموضع الهوياتي المضمر لدى الفصائل الشيعيّة الاسلامية التي برزت في السنوات الأخيرة، وصارت جزءاً من الفضاء السياسي العراقي المأسور بدوره لتأثيرات قوة السلاح ولاستعداد دائم لحرب آتية تبرر وجود هذا السلاح.
بينما يجري التركيز غالباً على البعد الايديولوجي في فهم “الفصائل الولائية” التي يسميها أهلها “المقاومة”، أو على التأثيرات الإيرانية في تشكلها وتضخم قوتها، وهي تأويلات صحيحة ومفيدة، يتم التغاضي عن بعض الأبعاد الاجتماعية التي تستدعي التأويل السوسيولوجي لاستكمال فهمنا لظاهرة هذه الفصائل وطبيعة المنتمين اليها.
ولا أزعم هنا أن لدي معطيات متكاملة، لكنني أرى أن بالإمكان الحديث عن أهمية البعد الاجتماعي – المناطقي (وما يضمره من حمولة اقتصادية / طبقية) ربما ساعدت في تنشيط الراديكالية الشيعيّة وتشكيل شبكات التضامن التي استثمرها “الحرس الثوري” الإيراني في بناء هذه الفصائل وتقويتها وتحويلها جزءاً من محور “المقاومة”.
إن عدداً مهماً من هذه الفصائل يتحدر من منشأين اجتماعيين – مناطقيين، الأول مثلته بيئة التمرد الشيعي – الإسلامي ضد نظام صدام حسين، والتي وجدت في مناطق الأهوار والمدن الجنوبية المحاذية لإيران وسكانها ملاذها ومخبأها الأساسي، والثاني يتعلق بالصعود الأول للتيار الصدري.
في الحالة الأولى، فإن “الجهاديين الشيعة” المدعومين من “الجمهورية الإسلامية” نشطوا في مناطق الأهوار والجنوب، تلك التي اصطبغ بعض سكانها بصفة “الشروكية” التي لطالما انطوت على حمولة عنصرية فوقية مورست في الغالب من أهل المدن وباتت لها دلالات سياسية (وربما طائفية)، خصوصاً بعد انتفاضة 1991 ضد نظام صدام.
هكذا نجد أن “حزب الله” العراقي (الذي يجب أن لا يخلط مع “كتائب حزب الله”) نشأ في تلك البيئة الأهوارية بزعامة عبد الكريم المحمداوي المنتمي الى واحدة من أكبر عشائر العمارة والأهوار. وإلى تلك الخلفية ينتمي عبد الكريم المحمداوي (المكنّى بأبي فدك)، أحد قادة “كتائب حزب الله” والرئيس الحالي لأركان “الحشد الشعبي”. ظلت تلك البيئة هامشية لعقود طويلة وسط تغوّل سلطة بغداد والنخب السياسية السنيّة، وهو تغوّل استمكن أكثر في ظل التحول نحو الاقتصاد الريعي الذي ترجم مزيداً من الانفصال بين الدولة والمجتمع، ومن تهميش مضاعف للهامش الجغرافي – الاجتماعي.
يقودنا ذلك الى المنشأ الثاني، والذي ينطوي أيضاً على تحدي “الهامش” الشيعي للمركز الشيعي. فبينما كان تعريف التشيع وتحديد فضائه الثقافي – الديني يجري بشكل خاص في إطار العوائل الدينية الأرستقراطية، ذات النسب العلوي أو المنتجة للمرجعيات ذات الأصل الإيراني بالدرجة الأولى، فإن تحوّل التشيع ايديولوجية سياسية وانتماء هوياتياً اجتماعياً سمح بصعود ممثلين جدد له ومنافسين على تعريفه. مثّل صعود محمد محمد صادق الصدر في تسعينات القرن المنصرم اللحظة المفصلية الأساسية في هذا التحول، حينما دفعه تنافسه مع المرجعيات التقليدية والشبكات الأسرية الدينية المهيمنة في النجف، الى محاولة الاستقواء بحاجة الهامش الشيعي الى الاعتراف والتمثيل، في زمن العسر الاقتصادي وانغلاق سبل الترقي الاجتماعي أمام معظم الشباب الجنوبي، فظهرت الحركة الصدرية بقيادة مرجع علوي كارزمي، واتباعه من شرائح جنوبية أو من أصول جنوبية تماهت مع مقولاته الى حد تحويله “مقدساً”.
لقد كانت “الحركة الصدرية” هي الرافعة التي وجد فيها الكثير من الشباب الجنوبيين ملاذهم في البحث عن المعنى والغاية والانتماء، أو بعبارة أخرى البحث عن الهوية. وكانت الراديكالية الصدرية بعد 2003 تعبيراً عن قوة هذا الزخم الباحث عن الاعتراف، مستفيداً من انهيار غول السلطة الديكتاتورية، ومعبراً عن ذلك برفضه العقائدي للاحتلال الأجنبي، ورفضه الهوياتي لهيمنة المرجعيات الشيعية التقليدية والأسر المتحالفة معها.
لكن الإرث الصدري نفسه صار في محل تنازع، أولاً مع تراجع راديكاليته ودخوله في “الحيز السياسي المركزي Political mainstream”، ومع صعود طبقة سياسية واقتصادية صدرية استفادت من نظام المحاصصة والمنافع التي يدرّها، وانتقال مقتدى الصدر الى مواقف شكّلها تنافسه مع قوى شيعية اخرى كتلك التي مثلها نوري المالكي، بدل الثنائيات المبسطة القديمة التي نسجتها مقولات رفض الاستكبار الأميركي وثنائية الحوزة الناطقة والحوزة الصامتة. هذا التموضع الجديد وعدم قناعة بعض الصدريين بزعامة مقتدى الصدر، ومحاولة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ومعه الإيرانيون الاستثمار في التشققات الصدرية لانتاج قوى أكثر ولاء لهم، سمحت بظهور “فصائل المقاومة” وانتقالها بعد 2014 من الهامش السياسي الى المركز، في عملية بلغت ذروتها عام 2018 مع تحول تلك الفصائل حليفاً أساسياً لحكومة عادل عبد المهدي.
ليس صعود الفصائل بقيادة صدريين مثل قيس الخزعلي وأكرم الكعبي، مجرد تعبير عن نزاع مع مقتدى الصدر حول الإرث الصدري ومقولاته المركزية، بل وأيضاً عن ظهور روافع بديلة لاحتواء الزخم الاجتماعي الشيعي الجنوبي، استمكنت في ظروف ضعف الدولة وتحوّل السلاح وسيلة للوصول الى الريع ولتحقيق مزيد من السلطة السياسية والتمكين الاقتصادي وقدرة الجذب الزبائني. لكن تراجع الإغراء الأيديولوجي للإسلام السياسي، وقوة الارتباط بين هذه الفصائل و”الحرس الثوري” الإيراني بشكل يضعف مصداقية تعبيرها عن بيئاتها الاجتماعية، واستغراق بعضها بالفساد السياسي والابتزاز الاقتصادي والنشاطات المافيوية، صارت معوقات أمام قدرتها على تجذير نفسها اجتماعياً وإعادة انتاج شرعياتها.
ومن هنا يبدو تضادها الأساسي مع الحراك التشريني الذي انتج مقولاته بالضد منها، مع فكرة الدولة المدنية لا الدولة الإسلامية، قوة القانون لا قوة السلاح، الوطنية لا المذهبية… الخ. يبدو هذا الحراك فضاء لصعود جنوبي جديد، هذه المرة للهامش الذي خلقه الإسلام السياسي الشيعي، والذي يستقوي بالسلاح للدفاع عن نفسه… إن لم يكن سلاح الدولة، فسلاح المقاومة.
المصدر: النهار العربي
https://www.annaharar.com/arabic/makalat/opinions/04022022012702978
Discussion about this post