
نشر أحمد سعداوي هذا المقال على جدار صفحتي في موقع الفيسبوك، وقمنا بنشره لأهميته وبلاغة رسالته، ومن الجدير بالذكر أننا قمنا بإختيار عنوان للمقال مقتبسينه من مضمون النص.
المدير
في كتابه “بغداد في العشرينيات” يذكر عبّاس البغدادي صوراً عن بغداد في بداية القرن الماضي؛ مدينة خارجة بحذر من القرون العثمانية الوسطى الرتيبة، الى أنفاس العالم الحديث، وأهم ما في صورتها تلك؛ أنها مدينة مفتوحة.
أنواع المأكولات في المطاعم الايرانية بالكاظمية، وكيف يُصنع “السونجاق” من العجين اللين المسكوب على الحصى الساخن، وحشود من الزائرين للمراقد الدينية الشيعية من كلّ أصقاع الأرض، وعلى مسافة من وسط بغداد ترى جموع الزائرين لمقام الباز الأشهب “عبد القادر الجيلاني” من آسيا الوسطى، من أوزبك وآذريين وطاجيك ومغاربة وشوام وغيرهم.
في تلك الفترة، وحتى اندلاع الحرب العراقية الايرانية كان الهنود من الديانة السيخية يزورون قبر “بابا نانوك” أحد المعلمين الكبار في الديانة السيخية، ويقال أنه دفن في مقبرة معروف الكرخي، أو مات هناك ونقل جثمانه الى الهند لاحقاً. في كلّ الأحوال كان الهنود السيخ يتقاطرون على مقام معلمهم الكبير ببغداد زمناً طويلاً.
في مدينة الكفل كان اليهود يأتون من إيران وتركيا ومناطق مختلفة من الشرق الأوسط بالاضافة الى اليهود العراقيين لإحياء مناسباتهم الدينية، وكان احتشاد الناس هناك يخلق سوقاً مربحة للعراقيين المسلمين، ويكاد الكثير منهم ينتظر هذه المواسم الدينية اليهودية بشوق، لغايات اقتصادية.
هذه هي صورة العراق الحقيقية؛ بلدُ مفتوح و “مرحّب” بالغريب، بل وقادر على امتصاص هذا الغريب وجعله جزءاً من نسيجه، إن فضّل الاستيطان والعيش بين العراقيين، كما حصل مع الكثير من عمال السفن الهنود الذين ينزلون عند ضفاف شطّ العرب، ويعجبهم المكان ويبقون، يعملون ويتزاوجون. ويفضّلون العراق على بلدهم الأصلي.
روى لي، في مرّة، رجل مسيحي آثوري من البصرة كيف أنه بسبب أجواء الاحتراب الأهلي، وبسبب تلقيه تهديداً ما، فضّل أن يغادر بيته بالبصرة، ويتّجه الى أقارب له في بعض قرى الموصل.
لم يرض جيرانه بهذا القرار، ولكنهم لم يرغبوا بمعارضته، واستأجر سيارة حمل نقل بها أثاثه، وغادر مع عائلته الى الموصل.
في نهاية يوم شاق قضاه على الطريق من جنوب العراق الى شماله، وضع له أقاربه صينية غداء، وكان من بين الأطباق طبقٌ فيه تمر، أخذ حبّات التمر وصار يأكلها ثم لم ينتبه لنفسه إلا والدموع تنزل من عينيه، لأنه تذكر نخلاته في بيته البصري.
وصل خبر هذه الحادثة لجيرانه البصريين، فعملوا المستحيل حتى يقنعوه بالعودة الى بيته وأنهم سيفدونه بأنفسهم ضد أي قلق يساوره، وهذا ما حدث لاحقاً، وعاد الى بيته.
العراق في جوهره متنوّع ويستعمل التنوّع لنسج صورته الفريدة، أما الكراهيات فغالباً ما تأتي من السياسة وبتحريض منها، والسياسة كانت تنجح دائماً في إيقاظ وحش الكراهية، كما في تهجير اليهود في الخمسينيات، والكرد الفيلية في بداية الثمانينيات، وتبادل التهجيرات ما بعد 2003 وحتى وقت قريب. وآخرها ما حدث قبل عام تقريباً في قرية نهر الامام في ديالى، وما زالت 540 أسرة غير قادرة على العودة الى منازلها حتى الآن.
اليوم نحن في أسوأ أوضاعنا، والكراهيات تتناسل بيننا، وتظهر في سلوكنا وخطابنا، بل ونكاد نبتهج لهذه الكراهيات ونشجّع عليها في مواقع التواصل الاجتماعي، والتخوين والاتهام يتطافر من كل جانب.
نحن مرضى، والسياسيون يستثمرون في هذا المرض ويغذّونه، والعلاج هو أن نحاول أن نستذكر ذلك الثابت والذي يتكرّر في التاريخ؛ بأننا بلد متنوّع، مفتوح اليد والقلب، وقادر على منح الحبّ لأبنائه والغرباء المحبين للعراق.
Discussion about this post