
قبل سنوات، كنتُ شخصًا حالمًا يميل للبحث عن عالم لا حروب فيه، ولا جيوش، ولا تجنيد إلزامي، ولا تجنيد من أساسه. كتبتُ ذات يوم أنني أتمنى أن نشهد يوما تصبح فيه الحرب كلمة نبحث عنها في القاموس لنفهم معناها، بل إنني نفرتُ كثيرًا من كتاب #الجمهورية لأفلاطون وهو يتحدث عن تدريب الصبية على مشاهدة المعارك! قلتُ في داخلي: ما هذه الداع#شية والتوحّش! لقد كنتُ مثاليًا أكثر من #أفلاطون نفسه.
ورغم عشقي للحضارات القديمة، التزمتُ الصمت حيال الحكمة السومرية القائلة: لن يترك العدو بوابة مدينة ضعيفة السلاح! ولم ترق لي قسوة تدريبات الإسبارطيين وقتلهم لضعاف الذكور، مع هوسي بالحضارة اليونانية. لقد كنتُ بخلاف الإسبارطيين، ولي جدٌ من طرف والدة والدتي مولود في #إسبارطة قبل قرون، أودّ القضاء على الذكورة السامة، وأسعى لتأنيث الرجال كيّ يعم الأرض السلام.
ورغم اتفاقي مع الفيلسوف الألماني #فريدريك_نيتشه في قضايا التجديد ونفي الإيمان بكل ما هو سماوي وميتافيزيقي، لم يعجبني أبدًا تمجيده للقوة وبحثه عن الإنسان الأعلى (#السوبرمان). كنتُ أودّ تخليص الجيوش من التدريبات العسكرية القاسية، في خطوة تمهّد للتخلص من الجيوش والقضاء عليها.
لكن كل هذه النزعات الرومانسية والحالمة كانت تصطدم بإيماني بالداروينية والصراع من أجل البقاء وحتمية الصراع، بل وأثره في تقدّم التاريخ حتّى، وما يجرّه من تقدم اجتماعي، وإدراكي أن الكثير من الابتكارات كانت في البداية مكرّسة للجهد العسكري قبل أن يتم تحويلها للاستخدامات المدنية.
بمرور الوقت، اكتشفتُ أن الدول العظمى لم تبنِ مجدًا كبيرًا سوى مع توسّعها، ويقرّ المؤرخ الإسرائيلي – اليساري النزعات – #يوفال_نوح_هراري بأن العالم يتقدم من خلال العولمة ومن بين أشكال هذه العولمة الأديان الكبرى والتوسع الإمبريالي، حسب ما ذكره في كتابه العاقل The Sapiens. بالطبع، كل الإمبراطوريات الخالدة، عبر التاريخ، حققت ثراءها ومجدها عبر التوسّع والحروب، ولم تنته إلاّ مع شيوع ما كنتُ أدعو له وأتبناه.
في الواقع، القوى العظمى اليوم مهيمنة لأنها تمتلك الترسانة العسكرية الأضخم، ولأنها تسيطر على الأساطيل البحرية والحركة الملاحية عبر المحيطات، والتكنولوجيا بلا شك في عالم اليوم.
قرأت ذات مرة كتاب عن الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) للمؤرخ الإسرائيلي #إفرايم_كارش ما ذكره عن قيام الأميركان بحذف البيانات المتعلقة بقطع الغيار عند إنسحابهم من إيران، تاركين الإيرانيين في حيرة من أمرهم بخصوص كيفية صيانة سلاحهم الأميركي، تركة نظام الشاه، وعانوا قبل أن يتمكن مهندسوهم من تجاوز الأزمة.
بالمثل، الكثير من الأسلحة الغربية اليوم تُباع للدول مع وقف التنفيذ، لأن ديمومة قطع غيارها غير مؤكدة إذا ما ساءت العلاقات بين البلدين، كما ويمكنهم إيقاف بعض الطائرات المقاتلة إذا ما استخدمت في حربٍ لا يسمحون هم بها، فضلاً عن مثال رفض بيع نظام الردع لتركيا، رغم أنها عضو في الناتو، ولجوئها لشراء نظام الدفاع الجوي الروسي، صواريخ S-400، وحدوث الكثير من المشاكل بين تركيا والولايات المتحدة على إثر ذلك، وغيرها الكثير.
كل هذه الأمثلة وغيرها تجعلنا ندرك أن الصراعات حتمية، بل ضرورية في بعض الأحيان لصعود بعض الأمم، وأن المثالية انفصال عن الواقع، وأن الدول لن تستقل وتتحول إلى قوى عظمى حتى تقوم بتصنيع أسلحتها الدفاعية بنفسها، ولا يتعلق الأمر بالإنفاق الكبير على قطاع التسليح من الخارج، بل التركيز على تطوير قدرات محلية حقيقية. لهذا السبب لن يغزو أحد كوريا الشمالية، فيما تم تدمير العراق لأنهم يعرفون بأن ما سوّقوه عن إمتلاك أسلحة كيميائية ونووية مجرد أوهام وأكاذيب.
بالطبع، لا أزال أحلم بالسلام وأفضله، ولا أظنني مستعدًا لخوض أية حربٍ، ولا يزال ذلك الرافض للعنف Pacifist قويًا في داخلي، ولكنني أحاول ترويضه قليلاً بالواقعية والبراغماتية، حتى ينجو في عالم الصراعات هذا.
كلكامش نبيل
Discussion about this post